منتدى الآصالة والتاريخ حريب بيحان

منتدى الآصالة والتاريخ حريب بيحان (https://www.hreeb-bihan.com/vb/)
-   النقاش العام والمواضيع العامة (https://www.hreeb-bihan.com/vb/forums/hreeb10/)
-   -   الخوف من الجديد (https://www.hreeb-bihan.com/vb/threads/hreeb55488/)

المصمم المحترف 08-21-2021 10:03 AM

الخوف من الجديد
 
الأصالة ليست دائما ذات قيمة ودلالة ايجابية، كما أن ليس لها آلية محددة ومفهوم ناجز يتجاوز النسبية التي تفرضها التغيرات الواقعية. والبنى الدينية والمنظومات الفكرية التي تشكل العامل الأساسي لبقاء وتماسك الأمة والجماعة ليست دائما تتمحور حول "ما كان قائما بالفعل" أي أنها ليست دائما تستمد بريقها ونفوذها من خلال تقادمها الزمني، بل إنها تفرض نفسها من خلال مواءمتها مع تلك التغيرات والتطورات الجذرية التي تلامس عمق التشكلات البشرية على اختلافها، هنا ينتقل المعيار من التقادم الزمني أو "ما كان قائما بالفعل" إلى ما يجب أن يكون أو "ما يراد له أن يكون".

المعطيات الجديدة التي تبرز على صعيد الواقع المعاش هي التي تدفع بعجلة التطوير وتفرض ضروراته، هنا تتجلى طبيعة المجتمع بوصفها كائنا مؤثرا في الثقافة، وحين نستعير مفاهيم سيسيولوجية خاصة يمكننا أن نميز بين مجتمع مغلق ومجتمع آخر مفتوح في تعاطيه وتعامله مع جدلية الأصالة والتجديد، لكننا مع ذلك لن نتمكن من فهم هذه الجدلية تماما إلا بمقاربة الأديان مقاربة سيسولوجية، أي يجب علينا أن نجعل من طبيعة المجتمع بنية تحتية يقوم عليها الدين والمنظومة الفكرية الظافرة في مجتمع ما، وليس العكس.

هذه المقاربة تجعل من الدين نتاجا اجتماعيا، أي أن المجتمع هو الذي يرسم طبيعة الدين ويحدد آفاق التدين ويمنحه "القبض أو البسط"، السعة أو الانكماش، النسبية أو الإطلاق، التغير أو الثبات إلى غير ذلك من ثنائيات، ولا يمكن أن يتسرب الشك أبدا في أن للمجتمعات البشرية طبيعة متغيرة يمتاز بها الإنسان دون سواه، فالكائنات الحية الأخرى جميعها وحتى التي تتصف بانتماء وتشكلات جماعية لا تتعدى القواعد الوراثية التي منحتها إياها الطبيعة، أما الإنسان والمجتمع الإنساني فإنه يمتاز بإمكانية الارتقاء وتجاوز الذات نحو الأفضل دائما، وبلغة التحليل النفسي فإن نزوة الحياة تحثه دوما ليس فقط للحفاظ على الفرد والنوع بل تمده أيضا بطاقة النماء والارتقاء على المستوى الوجودي وبناء الهوية والكيان.

تلك الهوية في حالة صيرورة دائمة، إنها تتكامل مع الزمن وتتجاوز ذاتها بذاتها. لهذا نشأت أهمية التطوير المستمر والتجديد في الفكر والرؤى الدينية والقطيعة المعرفية المستمرة، وهذا مما لا يرتاب فيه أحد حتى أؤلائك المتمترسون بالأصالة وشمولية الدلالة الدينية، هذه القطيعة إما أن تكون نتيجة إرادة سماوية تستنسخ الرؤى الدينية المتقادمة بأخرى أكثر صلاحية وفاعلية، أو نتيجة تطوير وتحديث بشري يتجاوز "ما كان قائما بالفعل" إلى "ما يجب أن يكون أو ما يراد له أن يكون" وهذا تبعا لدرجة نضج المجتمع ووصوله لمرحلة الرشد والاستقلالية.

كان أوغست كونت قد أقام فلسفته الوضعية ارتكازا على هذا المدعى، فالانتقال من المرحلة الأسطورية إلى المرحلة الميتافيزيقية وصولا إلى المرحلة الوضعية يتطلب إحراز نضج ورشد إنسانيين يخولان الإنسان صياغة الرؤى الفكرية الموجهة والنظم القيمية التي يريد، وتلك التي تنسجم مع تطلعاته.

إن نظرة فاحصة لتاريخ الأديان تكفي لإثبات رجاحة هذه الفرضية، أعني تأثير المجتمع في تكوين الرؤى والتصورات الدينية. الدكتور المفكر الكبير شريعتي يقدم تأملات جميلة في هذا المجال، يرى أن ثمة ترابط أو تلازم بين شكل وبنية النظام الاجتماعي القائم وبين الرؤى الكونية التي تقوم عليها تلك التصورات الدينية، فحينما كانت الجماعات الأولى بصورتها الشيوعية البدائية كانت العقيدة تقوم على أقنوم وأصل واحد، تمثل في بدايته في طوطم القبيلة. هذا الطوطم الذي تطور حتى وصل لصورته المتكاملة في منظومة عقدية أكثر تعقيد، وكانت البداية تعبر عن روح الجد الواحد الذي يشترك في الانتساب إليه كل أفراد القبيلة ثم انتقلت هذه الروح للطوطم «عبادة الأشياء». وبمرور الزمن وتكاثر الإنسان وبسبب تغير وسائل التوليد والإنتاج تشكل المجتمع وتكونت طبقتين في ذات القبيلة، الأمر الذي انعكس على المنظومة العقدية فظهرت الثنوية التي تؤمن بإلهين أو أقنومين للعالم، قديمين ومتضادين، كالدين المانوي الذي يقسم الأشياء في العالم إلى قسمين، الخير والشر، القبيح والجميل، كذلك الدين الزرادشتي الذي يرى ثنوية «آهورامزدا وأهريمن» وكذلك بعض المذاهب في حضارات الشرق«الهند والصين».

ثم تأتي مرحلة جديدة تكون فيها الطبقة الحاكمة «مقابل الطبقة الزراعية العمالية» بثلاثة أبعاد، حيث تتخذ ثلاثة وجوه في المجتمع «السياسة ، الاقتصاد ، المذهب» فينعكس هذا على الرؤية الكونية، وتتولد عقيدة التثليث، التي تعني ثلاثة تجليات لإله واحد، وهكذا وانطلاقا من هذا الرصد لحركات الأديان والمدارس الفكرية عبر التاريخ استطاع شريعتي أن يبلور فلسفته التاريخية التي ترتكز على العلاقة الجدلية بين الدين والمجتمع كما مر بيانه.

هذه العلاقة المتبادلة التأثير هي التي تقودنا إلى تفسير المسار التاريخي التطوري للأديان السماوية بما فيها الدين الإسلامي، حيث كان الإسلام تبعا للمفكر شبستري يقوم على أساس صيغ دينية تراعي الصلاحية العملية بشكل خاص، إنه نشأ متوافقا مع طبيعة المجتمع، ولهذا السبب تحديدا لم يكن يتسم بأبعاد طقوسية، أو صيغ عقائدية معقدة، لكنه سرعان ما أخذ يتحول عقب امتداده واكتساحه للمجتمعات الحضرية آنذاك فأثر وتأثر بها، حينها بدأت المذاهب تتبلور شيئا فشيئا، التشيع مثلا نشأ في بيئة اجتماعية حضرية تتطلب الحضور المكثف للشفاعة فهي تؤدي وظيفة اجتماعية في الأساس، بخلاف المجتمعات الأخرى "التي اعتادت في حياتها الاجتماعية أن تخاطب رئيسها مباشرة بلا واسطة، وقد صدق دركهايم حين قال أن العقائد الدينية تستمد جذورها من العادات الاجتماعية".

وبالمثل نشأت المذاهب الدينية الأخرى نتيجةً للتمدد والاتساع الذي حققه الإسلام مما يعني ظهور تفاوتات في الوظائف الاجتماعية للتدين، الأمر الذي استلزم التحصن خلف متاريس الصيغ العقائدية المتعددة وهكذا نشأ علم الكلام.. هنا لم يعد الإسلام "كما كان بالفعل" بل لابد من تجاوز ذاته إلى "ما يجب أن يكون".. أي بعبارة موازية بدأ الإسلام يجدد ذاته فكريا وعقديا، حيث ظهرت الحاجة لتجاوز الفهم الديني في نشأته لتحقيق اتساق ومصالحة جديدة بين الدين والمجتمع.

كان من الطبيعي إذاً أن تظهر حركات فكرية مجددة تحمل على عاتقها هذه المهمة النبيلة، والنتيجة أن يتوالد المجددون في كل عصر، وقد فطن الدين نفسه لهذه الحاجة الضرورية: جاء في الحديث: "إن الله يبعث على رأس كل مئة عام من يصلح لهذه الأمة أمر دينها" فالإصلاح هذا ليس إجراء شكليا أو كماليا بل هو ضرورة ملحة تفرضها سنة التغير وتقرها الأديان على اختلافها.

إلا أن ذلك لا يمكن أن يتحقق بسهولة وبلا معوقات، فكل الأنساق الدينية والفكرية والمعرفية تجنح لتأزيل نفسها عبر وسائل عديدة منها ارتهان الفاعلين الاجتماعيين لصالحها من خلال رهن مصالحهم ومكانتهم ببقاء هذه الأنساق في المركز وإبعاد ما سواها إلى الهامش! فيظهر الصراع بين المجددين والمحافظين، ويبقى هذا الصراع مفتوحا إلى أن تتمكن بوصلة المجتمع من حسمه، فإما أن يستمر -المجتمع- في التقدم والمصالحة مع الذات وتجاوز الأفهام الدينية السلفية أو أن تبقى هذه الذات تعيد إنتاج نفسها في حلقة مفرغة تجتر أمجاد الماضي وتستبعد الحاضر والمستقبل معا من حساباتها وأجندتها وخياراتها، تصبح مسكونة بهاجس "ما كان بالفعل" دون أن تتجرأ في أن تخوض تحديات "ما يجب أن يكون"!

إن ارتهان تلك الأنساق الفكرية الجامدة وامتلاكها لناصية "الإسلاموية المحافظة" هو ما يكشف أزمتها وعطالتها الماثلة في خشيتها المزمنة من التجديد في الفكر الديني، وحنقها الشديد من الدعوات التي تدعو إلى القطيعة المعرفية وتجاوز الأيديولوجيات التي تخلط بين المصالح السياسية غالبا وبين العقيدة الدينية، إنها لا تستطيع استيعاب فكرة أساسية تؤكد أن للتصورات والطقوس الدينية وظائف اجتماعية معينة، فتحتل الصدارة تارة وتضمر تارة أخرى، ولئن كانت هذه الطقوس أو تلك الشعائر ليست في نطاق "ما كان قائما بالفعل" فإنها تعمد لاختلاقها وابتداعها! هذه الحقيقة السيسولوجية مفقودة تماما وغائبة عن الحركات الدينية التقليدية، وإن كنا بصدد عوامل كثيرة تفسر هذا الرهاب المتصاعد من التجديد والتطوير فإن أبرز عامل يظهر بجلاء هو الخشية من فقدان الامتيازات التي كفلتها لهم تلك الأنساق المهيمنة!!

المجتمع كما الفرد يسعى لتجاوز ذاته دائما، والتاريخ في حركة مستمرة تفرضها سيكولوجية التقدم والامتلاء الوجودي، وأي رؤية دينية أو فكرية تحجم عن الاعتراف بهذا الواقع مآلها الانحسار والانكماش، وحتى لو نجحت في سيطرتها والاحتفاظ بسلطتها فإنها لن تتمكن من إحراز الفاعلية وصلاحية العمل.

الواقع أن "الإسلاموية" تمارس بشكل دائم عملية "سطو" لمصادرة الدين وفرض تفسيرها العقيم على جميع شرائح المجتمع وتياراته المختلفة، إنها تحمل فكر منتهي الصلاحية، لا يمكنه تقديم أجوبة ومبادرات تصب في صالح الواقع المعاش بأبعاده المختلفة، إنها تعاني من انشطار بين الواقع والذات، لهذا نرى لديها انحسار أكثر في النفوذ وخسارة أعظم في المواقع والتأثير الاجتماعي. والشيء الوحيد في جعبتها الذي يحول دون ذلك هو العزف على أوتار الاستجابات الانفعالية على تحديات الواقع واستخدام حقن تخديرية وحلول يوتوبية تتسبب في تكريس الغيبوبة الحضارية التي تعاني منها –أصلا- مجتمعاتنا.

إننا هنا أمام وضعية تتحالف فيها الإسلاموية المحافظة مع النظم السياسية التي هي الأخرى تجاوزها الزمن مع قوى الهيمنة العالمية التي تضلع بمهمة تكريس الأصولية من خلال فرض الحلول بالقوة والغلبة، مما يخلق فرص مواتية تعتاش عليها الإسلاموية لتقف بالمرصاد ضد كل تجديد وتغيير. في حين أن التجديد لكي ينجح يجب أن يعتمد الإصلاح من الداخل وعدم الإرغام والقهر، وهذا ما لا تراعيه قوى الهيمنة، كما يشترط مراعاة ظروف المجتمع ومقتضياته وتطلعاته وهذا ما لا تراعيه كلا من الإسلاموية والنظم السياسية الحاكمة.

هذه القوى رغم تباينها ظاهريا واتفاقها وتحالفها ضمنيا تشترك في عملية إخصاء لنزوة الحياة وقمقمة الطاقات الحية التي تنزع للتطوير والتغيير المستمر، الأمر الذي يتمخض عن مولود مشوه هي مجتمعاتنا وما تعانيه!


منقول


جميع الأوقات GMT +3. الساعة الآن 06:18 PM.

.
new notificatio by 9adq_ala7sas
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
.


Search Engine Friendly URLs by vBSEO

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66