مرت (جمعية اللهجات والتراث الشعبي) بمرحلة شائكة وصعبة, إبان إحيائها وبعثها من جديد لتقوم بدورها الثقافي والأكاديمي الذي أُغفل كثيرا في ثقافتنا العربية, نظراً لحساسية (اللغة العربية) وخصوصيتها وكونها لغة المقدس ولم ينِ المناوئون للجمعية ساعة في الهجوم على أهدافها والتشكيك في نزاهتها، وأنها ما هي إلا حلقة من سلسلة الحرب على الفصحى، وحيلة ذكية لإسقاطها, والإجهاز عليها.

وكان من رأي هؤلاء المعترضين، أن اللغة الفصحى في واقعها ضعيفة الانتشار وغير متداولة، ويجهل استعمالها أغلب المنتسبين إليها! ويؤكدون في المقابل انتشار العامية وسيطرتها على مجالات عدة في الحياة اليومية! كل ذلك على الرغم من أن اللغة العربية الفصحى هي المستأثرة بالدراسات العلمية والحائزة على الصدارة بل والقداسة! ويضيفون بقلق شديد.. فماذا ستكون الحال لو أعطيت (العامية) نصيبها من الاهتمام العلمي وتلفت إليها الباحثون ليفتشوا في أعماقها، الأمر الذي سيحمل - بشكل تلقائي - على الاعتراف بها وتقنينها ومن ثم تطويرها إلى لغة مستقلة!

ولا شك أن لهذا القلق أسبابه الوجيهة.. لكن اللبس يعتريه، ويجب علينا أن ننبه إلى حقيقة أهداف الجمعية وغاياتها، وأن نكشف عن واقعها وموقفها من اللغة الفصحى!

أولاً: بالنظر الخاطف إلى المنتسبين إلى هذه الجمعية سنجد سوادها الغالب من المتخصصين في اللغة العربية.. وهذا يعني بشكل مباشر أن الأمين على اللغة الفصحى هو ذاته القائم على هذه الجمعية! الأمر الآخر، فدراسة اللهجات هي من العلوم اللغوية المعاصرة التي برَّز فيها الغرب، واستطاع أن يتتبع بذلك ثقافة الأمم الأخرى ومن بينها ثقافتنا نحن العرب.. ولم تعد عملاً يحتمل التشكيك، بل هو علم له طرقه وبنوده وخصائصه، التي تقوم على أسس علمية وموضوعية بحتة، تتمثل في تحليل اللهجة بتجريد أصواتها وتسجيل خصائصها النحوية والصرفية والدلالية، ومن ثم المقارنة بين لهجة وأخرى.

لتصل إلى جذورها القديمة ومدى تأثرها بما جاورها من لهجات أو لغات.. فهذا العلم ليس محصوراً على الدراسات اللغوية المتخصصة، بل يتسع ليفيد الدراسات الجغرافية والإنثروبولوجية والنفسية والاجتماعية وحتى السياسية.. ولهذا نرى أوروبا ترسل الباحثين إلى جزيرة العرب ليرصدوا مختلف جوانب الثقافة لدينا، ومن أهمها اللهجات، ويؤكد ذلك الكم الكبير من مخزوننا الثقافي والمعرفي المستقصى والمفهرس لدى المكتبات والمراكز البحثية في الغرب.. وبناء على ذلك فلا عجب من أن ينال - مثلاً - الدكتور سعد الصويان شهادة الدكتوراه عن (الفولكلور الشعبي) من أمريكا! كما أنه من غير المنصف أن نتجاهل أمرا نعيشه كل يوم، وهو استعمالنا اللهجة العامية.. بحيث نجعل منها (نشازاً) وأمراً منكراً، لا يجوز النظر إليه أو محاولة تقليبه، خشية منه على شيء آخر!

فاللهجة هي شيء ملازم لنا، نستخدمها في جميع الظروف، وهي تعبير شفيف عن المجتمع وثقافته، إذ لا تكلف فيها ولا تصنع، بخلاف الفصحى التي تعد في نظر (اللسانيين), لغة أخرى لها خصائصها المتميزة عن غيرها.. وهذا أمر لا ينكره أحد.. فاللغة الفصحى تختلف عن العامية في عدد من الخصائص, ولا يستطيع أحد أن يقول إنه حين يتحدث الفصحى يتحدثها سليقة دون قصد أو تعمد..! وهذه مشكلة تحتاج إلى حل - أعني البعد عن اللغة الفصحى - وعلينا كمتخصصين في اللغة العربية أن نجتهد في البحث فيها وإيجاد الطرق المناسبة لتذليل عقباتها وطرحها بأسلوب مبسط وعصري، فاللغة الفصحى هي الأساس، ولعلنا أيضا لا نغفل أن من أسباب دراسة العامية خدمة الفصحى، كما هي الحال في الدراسات المقارنة؛ فنرى بعض المفسرين للقرآن الكريم يتوسعون في تفسير القرآن باللغات السامية الأخرى, فقد فسر السيوطي في كتابه (الاتقان) كلمة (أخلد) بالنظر إلى اللغة العبرية على أنها تعني (رَكَنَ), وكذلك في (أسفار) في الرجوع إلى السريانية التي تعني في معجمها (الكتب)!

وفي الفصحى كلمات وأساليب اندثرت أو كادت لا نجد لها اهتماماً اليوم في الدراسات الفصيحة لكن لها وجود في اللهجات العامية، ومن ذلك مثلا لغة (أكلوني البراغيث), والقلب في بعض الحروف كما في لهجة القطيف (ثلاثة تنطق فلافة) وهي لغة نسبت إلى بني تميم، وكذلك في حذف ياء المتكلم في لهجة القصيم كما في (أكْرَمَنْ) بحذف نون الوقاية، وأيضا قلب الجيم ياء في لهجة حوطة بني تميم وهي لغة وصفها الدكتور أبو أوس إبراهيم الشمسان بأنها امتداد لاستعمال تميم…

(راجع: مجلة حوار العرب, العدد الخامس).

كما أن الأدب العامي، الذي يشمل الشعر والأمثال والحكم والقصص والأساطير هو مخزن مليء بكل الطاقات الإنسانية والأفكار الكونية التي صنعتها التجارب.. أفلا تستحق هذه الجهود الكبيرة والخبرات الطويلة الدراسة والتأمل أم نتجاهلها ونغمطها حقها انطلاقا من أن النظر إلى العامية قد يضر الفصيح الراقي!

إن دعوة (إحلال العامية محل الفصحى) لا يمكن أن تصدر عن شخص يدرك أهمية الفصحى وكونها تشكل (الهوية).. ولذلك فقلَّة هم الداعون إلى هذا التوجه، ولا يجوز أن يتهم المهتمون بدراسة اللهجات دراسة علمية موضوعية بمثل هذه التهم، أو يؤخذوا بجريرة غيرهم ممن يأنف من الفصحى ويرى أولوية العامية وأحقيتها.. خصوصًا أن دراسة اللهجات تعتمد في أهم جوانبها على البحث عن العلاقة بين العامية والفصحى، ومدى تعلق الأولى بالأخرى، والتغيرات الطارئة التي أحالتها إلى عامية، وقد توصلت هذه الدراسات إلى حقائق مهمة ما كانت لتظهر لولا هذا التوجه البحثي العلمي!

وفي نظرية للعالم اللغوي الفرنسي (دي سوسيور) يؤكد فيها أن العلاقة بين اللغة والفكر علاقة تلاحم وتداخل، وشبههما بالعملة الورقية ذات الوجهين فلا يمكن تمزيق الوجه الأول دون تمزيق الوجه الثاني، فإننا حينها سنحتاج في دراسة - المجتمع النجدي مثلا - قبل (مئة سنة) إلى النظر في اللهجة السائدة آنذاك, وبالتالي سنستطيع - وفقا للنظرية اللسانية السابقة - تحديد الملامح الأساسية لتفكيرهم، وستساعد على قياس مدى وعيهم، والتوصل إلى منجزاتهم والبيئة الثقافية والمعرفية التي أنتجوها.. وبهذا المفهوم تقوم دراسة اللهجة بدور تسجيلي مؤرخ، ولنا أن نفطن إلى أن البيئة الجاهلية لم تكن معلومة لولا هذه الأدب الذي أنتجته، وآلة الأدب هي اللغة، فمع تطور الدراسات اللغوية تجلت لنا الفترة الجاهلية أكثر وأكثر, واتضحت مظاهرها والخصائص التي استطعنا في ضوئها تفسير عدد من المواقف والأحداث التي وقعت فيما تلاها من عصور.

ختام القول: إنه لا حرج في دراسة اللهجات، وعرضها على المعيار الموضوعي الذي يصدر عن فكر منهجي محايد، غير محتمل لأية ظنون أو نوايا مبيتة، تسيء إلى اللغة الفصحى أو تغض من حقها، فذاك توجه متحيز وعمل مؤدلج، حتما؛ لا تُعنى به الدراسات الجادة لعلم اللغة واللهجات.