منتدى الآصالة والتاريخ حريب بيحان - متى تنهض خراف الرب في العالم الثالث ؟ عبدالعزيز المقالح

متى تنهض خراف الرب في العالم الثالث؟

د.عبدالعزيز المقالح

كان الملوك ورجال الكنيسة وزعماء الإقطاع في أوروبا القرون الوسطى يسمّون المواطنين بخراف الرب، وهم البشر الذين خلقهم الله سبحانه في أحسن تقويم ووهبهم نعمة العقل والإدراك، وتسميتهم بالخراف كان من باب الاستصغار بشأنهم والاحتقار لمكانتهم، لكن دوام الحال من المحال فقد ظهرت الطباعة، ومكنت من نشر الكتب والصحف وساعدت على إنشاء المدارس وظهور المفكرين وقادة الرأي، وبدأت الخراف التي لم يكن حالها يختلف كثير عن حال الحيوانات التي ترقد في الحظائر انتظاراً للذبح والسلخ، تحتج وتثور وتطالب بالتغيير وباختيار حكامها عن طريق الاقتراع الحر، ومع ارتقاء الوعي وامتلاك الإنسان الأوروبي لحريته بدأت الصناعات الحديثة والابتكارات المدهشة من الكهرباء إلى القطار، ومن الراديو إلى التلفزيون، ومن الطائرة إلى مركبات غزو الفضاء.

لقد استعادت الخراف البشرية في أوروبا إنسانيتها ولم يعد الصراع على السلطة يشكل هماً عاماً، بل صار محصوراً في الأحزاب التي انحصرت في حزبين أو ثلاثة، وتحددت بذلك الملامح الأساسية للأنظمة الحديثة في ذلك الجزء من الكرة الأرضية الذي أصبح فيما بعد نموذجاً لبقية أجزاء المعمورة رغم نزوعه إلى الغزو والهيمنة. والسؤال هو: متى تنهض خراف الرب في العالم الثالث، عالمنا المريض. أسير الخلافات والصراعات على السلطة والاستئثار بها وكأنها كل شيء في حياة إنسان هذا العالم، عالم التخلف والخلاف، عالم يبتدئ فيه كل نظام مغتصب عمله بطمس تراكم التطور المحدود والنظر إلى الديمقراطية بوصفها شراً من عمل الشيطان والنظر إلى من يسعى لمواجهة الواقع السائد ورفضه خارجاً على قانون خراف الرب التي لم تعد خرافاً للرب بل للحكام ولبقية المتنفذين في دولة وصار من حقه سجنها أو ذبحها أو حجب النور عنها؟ ثم متى يبدأ إنسان هذا العالم في ممارسة إنسانيته وهويته كمخلوق يملك عقلاً وإدراكاً يفرق بين الحق والباطل، بين الظلم والنور والحرية والعبودية؟

لقد شهد هذا العالم المسمى بالثالث انتفاضات وثورات وانقلابات، وقدّم من التضحيات ما لم تقدمه أوروبا وأمريكا للخروج من زمن الخراف، ومع ذلك ما يزال أسيراً معاقاً تحركه الأهواء وتعبث به المصالح الخاصة للمتنفذين، وما يزال على استعداد ليقبّل اليد التي تلطمه والقدم التي تدوس على رأسه، وما تزال النخب المثقفة في هذا العالم تنفق من الجهود في إشعال نيران الخلافات فيما بينها أكثر بما لا يقاس مما تنفقه من جهود في توعية خراف الحاكمين بأمرهم، وتعريف هذه الخراف بحقوقها وما ينبغي أن تفعله للوصول إلى الحياة الفاضلة الكريمة القائمة على العدالة والمساواة والشعور بالآدمية، وإلى ما يجعلها تنصرف إلى الإبداع والابتكار، واللحاق بشعوب كانت إلى ما قبل منتصف القرن العشرين تنتمي إلى هذا العالم الثالث بإحباطاته وتعثراته المتوارثة والمحمولة إليه من قوى الهيمنة والتآمر الدولي.

تشير الدراسات التي تابعت تاريخ حركة النهوض السياسي والفكري والصناعي في أوروبا إلى أنها قد احتاجت إلى أكثر من ثلاثة قرون لكي تحقق هذا المستوى العالي من التقدم ولكي تجذّر من واقعها معاني التغيير بأبعاده المادية والمعنوية، وهذا لا يعني أن شعوب العالم الثالث التي ما تزال تعاني من سطوة التخلف تحتاج إلى كل هذه المساحة الطويلة من الزمن، فقد تطورت وتائر التغيير، وما كان يتم في قرن كامل صار إنجازه ممكناً في عدد قليل من السنين، وقد استطاعت شعوب في منطقة الشرق الأقصى وفي أمريكا اللاتينية أن تصعد في وقت قصير، وذلك بفضل الإرادة التي توفرت لدى هذه الشعوب من جهة، وبفضل القيادة الحكيمة التي تفرّغت للبناء، لا للمحافظة على السلطة، ومقاومة الخصوم من جهة ثانية. وأمامي عدد من الشعوب التي كانت إلى ما قبل عشر سنوات فقط في الحضيض وصارت في القمة أو بالقرب منها.

تأملات شعرية:

الحق أقول لكم:

لا خوف على بلدٍ مطبقةٌ عيناه

إذا كان له عقلٌ مفتوحْ.

الخوف علينا من بلدٍ

يحمل تاريخ القهر على كتفيهِ

فلا يشكو،

أو يتألم،

بل يتلوى .. يقفز في صمتٍ

كالسنجاب المذبوحْ!