منتدى الآصالة والتاريخ حريب بيحان - فانوس جدتي والقرن الحادي والعشرون !

في الوقت الذي تحتفي فيه مُدنْ بمرور مائة عام واخرى خمسون عام بعدم إنقطاع الكهرباء فيها ، لا زال فانوس جدتي قيد العمل ، ونحن في بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرون لازالت الكهرباء غائبة عنَّا بُكل أسى وحُزن ، رغم تصدير محافظتنا لها – بكل فخر وإعتزاز - للمحافظات الأخرى ، اسمع – مجرد سماع فقط – أن الكهرباء عصب الحياة وعمودها ، فإنقطاعها يجعل من الحياة مشلولة لا حراك فيها ، بغيابها تتعطل شؤون الحياة ، ربما كان ذلك في عوالم أخرى لم ولن يتسن لي التفكير فيها ...

الحياة مُستمرة دون إنقطاع ، رغم إنقطاع الكهرباء المستمر في ريفنا المتواضع ، قُبيل الغروب تتولى والدتي – أطال الله عُمرها – القيام بالعناية الشاملة للفانوس ، تقوم بتغذيته بالديزل ، وتنظيف زجاجه من السواد الذي ارتسم عليه من الليلة السابقة ، وتتفقد تلك القطعة القماشية التي تغوص نهايتها في السائل ، بينما تبقى بدايتها في قاعدة الفانوس التي تعتلي مخزن الوقود ، في إنتظار إشعال النار فيها ، لتبدأ بعملية الإضاءة ، تلك الإضاءة التي مصدرها الفانوس ، تُشبه إضاءه الأماكن الرومانسية التي تُضاء فيها الشموع العاطرة العابقة بالعواطف التي تكتنف المكان ...

في جهاز العروس – والدتي – تم وضع الفانوس هدية لها من جدتي لأمُي ، هدية ثمينة ، لم تفقد قيمتها في سوق البورصات ، وفي ريفنا لازال مؤشر الفوانيس مُرتفعاً على الدوام نتيجة غياب الكهرباء عنه ، من الفوائد التي تجنيها العوائل – بعضها وليس جميعها – من وجود الفانوس أنَّها تجتمع كُل مساء على ضوءه النفيس ، وتتبادل الأحاديث المتنوعة ، حتى يحين موعد الإعلان عن الذهاب إلى النوم ، إجتماع افراد الأسرة يزيد من الألفة والمحبة والتفاهم والتقارب في الأفكار ، ويتم تبادل الآراء والأفكار الخلابة والجذابة مما يدل على توافر حرية الرأي والرأي الآخر ، كما يساعد غياب الكهرباء على عدم الإجهاد والتعب الذي يُصيب العين نتيجة السهر ، كما يساعد الإلتفاف حول الفانوس على ازدياد الإحساس بالدفء بين أفراد العائلة ، كما أن حرارة إلتقاء الأجساد والأنفاس يزيد من إنبعاث الحرارة – تُذيب الدهون - التي تقوم بعمل ريجيم طبيعي يؤدي إلى إنقاص الوزن لمن يُعاني من أعراض السمنة والبدانة ...

التحلُّق حول فانوس جدتي – سابقاً – ووالدتي – حالياً – يُعيد لنا زمن القصَّ ، وعهد الحكواتي الذي يحكي حكايات الزير ابو ليلى المُهلهل ، وفارس عبس عنتر وقصته مع عبلة ، وكذلك قصة أبو زيد الهلالي والزناتي ، تتنوع الأصوات تروي لنا قصص وأقاصيص وروايات ، تُشبه ألف ليلة وليلة ، ولكن ليس بيننا شهريار ، ولا وجود لشهرزاد التي تبدأ قصتها لتنتهي عند إنبلاج الصباح ، حفاظاً على بنات جنسها من الموت الذي حرص عليه شهريار بعد إكتشافه خيانة زوجته له ، ندخل عالم الجن من خلال حكايا الجدّات التي بدأت تندثر وتموت في ظل وجود الكهرباء الغير موجودة بشكل مُستمر في ريفنا ، فقد غزانا التلفزيون ذلك الصندوق الصغير ، وجاء بعده ذلك الصحن الذي يحتل سطوح المنازل ليجذب قنوات شتَّى مفاسدها أكبر من منافعها على شباب المُستقبل لما تحويه من ثقافات مستوردة عبر مُسلسلات هدّامة مكسيكية ، وتُركية أستقطبت الكثير من المشاهدين ، وشغلت بها أخواننا واخواتنا ، حتى بدأ التقليد السلبي الهدَّام لذلك الممُثل ، وتلك المُمثلة ، لم يكتفي البعض بتقليد الشكل ، بل انتشرت ثقافة المُسميات تيمناً بذلك البطل ، وتلك الأميرة ، أصبح مُهنَّد ونور ، ولميس وغيرهم من الأسماء يتواجدون بيننا والفضل يعود لتلك الثقافة الأجنبية المستوردة ، هنيئاً لنا بفانوس جدّتي لم يسمح لنا بالتغيب خارج المنزل والتسكع في شوارع الريف برفقة بعض الشباب الباحث عن كثيب رملي يتسامرون فوقه حتى يطلع القمر ، إنّ كان غائباً ، أو يأفل إن كان حاضراً بنوره الجميل ...

في حضور الفانوس الذي يُشبه إبريق علاء الدين السحري ، تزداد أواصر العلاقات بين أفراد العائلة ، وتقِلّ الخلافات الناتجة عن ثقافة الأكشن التي يجلبها التلفاز عبر محطاته الكثيرة العدد ، القليلة الفائدة ، أدام الله لنا فانوسنا ، وحفظ الله أمُهاتنا ، وأطال الله بُعمر آباءنا ، وزاد الله المودة والألفة بيننا ، وجعلنا مِنْ مَنْ ينتفع وينفع بما نكتبه ، وعافى الله يمننا السعيد ، ووحّد بين أمُتنا ، وحرّر مُقدساتنا المُغتصبة ...

6/9/2012م

حريب – حلوة