منتدى الآصالة والتاريخ حريب بيحان

نصر الدين البحرة

أذكر هذه النكتة من أيام الطفولة والدراسة الابتدائية, فقد قام ثلاثة أولاد للصلاة, وفيما هم كذلك, مرت قطة بجانبهم, فقال لها الأول: بست. وعندئذ صاح به الثاني: لقد أفسدت صلاتك. وحينذاك سارع الثالث إلى القول: أحمد الله أنني لم أقل شيئاً. وعلى الرغم من البساطة المتناهية في هذه النكتة, فإني أرى أنها قادرة على انتزاع الضحك, أو الابتسام على الأقل, من الصغار والكبار على حد سواء, في كل وقت.. أمس واليوم وغدا. ذاك أن شروط النكتة الناجحة متوفرة جميعاً فيها.‏
وقبل أن أمعن في الحديث عن شروط النكتة والعناصر التي تكفل لها النجاح أحب أن أعرض نكتة أخرى. أوردها الكاتب البلغاري بارنيا كوف (1). فعندما كان أحد الأساتذة يفحص طلابه في مادة الأدب السلافي سأل أحدهم, وكان كسولاً للغاية: من مؤلف رواية الحرب والسلم? أطرق الطالب دون أن يستطيع الإجابة, فطار صواب الاستاذ وصاح بأعلى صوته: - تولستوي!‏
فما كان من الطالب إلا أن سار عائداً إلى مكانه. فسأله الأستاذ: إلى أين ? من الذين سمح لك بالذهاب?‏
فرد الطالب قائلاً: ألم تناد طالباً آخر لتفحصه?!‏
ما النكتة?‏
هذه هي النكتة إذن, حادثة صغيرة جرت, موقف ما وجد إنسان ما أو أكثر نفسه فيه. ولربما كان لذلك أصل من الحقيقة والواقع, في كثير أو قليل, ولربما كان إبداع خيال ظريف وروح مرحة. لكن.. ما حدث أو لم يحدث, فما ندعوه الآن: النكتة .. أمامنا,من جديد, في صيغة ربما أشبهت صورته الأولى , وربما عراه تحوير وتغيير.. فماذا نقول بعد?‏
ولماذا يبحث بعضنا عن النكتة ويطلب سماعها, في حين يحاول آخرون, أن يصنعوها على نحو إرادي مقصود, فيه كثير من الموهبة والفطرة, أو أنها تجيء هكذا, عفو الخاطر وليدة المصادفة أو المفاجأة.. أو نتيجة حالة معينة.‏
صحيح إذن أن النكتة, وقد خرجت عن مناسبتها, وصارت لها مفرداتها الخاصة وصيغتها اللغوية المتميزة, هي محاولة لإعادة التوازن داخل النفس المضطربة القلقة التي هزتها أحداث زعزعتها عندما وقعت خارجها ونفذت إليها, فرأت تلك النفس أن تستعيد توازنها بالضحك أو افتعاله (2).‏
وهكذا نجد أنفسنا تجاه حقيقة, قد لا نكون أوليناها ما تستحق من اهتمام قبلاً (فالإنسان الضاحك, أو الذي يصنع الضحك, هو إنسان رقيق المشاعر, مرهف الحس, فليس الإضحاك بالأمر الهين, بل الهين هو بعث البكاء واستحداث الأسى, من أجل ذلك كان كتاب الكوميديا كانوا قلة إذا قيسوا بكتاب التراجيديات, منذ المسرح الإغريقي حتى زماننا هذا..). (3)‏
بلى قد ترتبط النكتة بمناسبة معينة وزمان ومكان محددين, ولكن كلما ضعف ارتباطها من حيث فحواها, بهذه العناصر الثلاثة, كان ذلك أدعى إلى نجاحها. وهذا لا يعني أن من الضروري تجريد النكتة من ملابساتها, بل إنه يعني فحسب, أن يكون مضمونها محتويا على العناصر الإنسانية التي تجعله قابلاً للحدوث, في أمكنة أخرى وأزمنة مختلفة, ومناسبات متعددة, وذلك كي تكون النكتة قادرة على التعبير عن الجوهر الإنساني الخالد, المتجدد أبداً.‏
عناصر النكتة الثلاث‏
ولكن ماذا... عن عناصر النكتة?‏
هناك ثلاثة عناصر لا بد أن تتألف منها أي نكتة.. هي المضمون الذي تقدمه, والراوي الذي يؤديها والمتلقي الذي يتلقفها. والنكتة الناجحة هي التي تتوفر لها هذه العناصر الثلاثة معاً, فإذا اختل أحدها اضطربت وفسدت وسقطت, مهما يكن العنصران الآخران ناجحين.‏
1- مضمون النكتة :‏
آ- يجب أن يكون عفوياً أو موحياً بالعفوية والصدق والبعد عن الافتعال والتصنع على أن تكون مفرداته أو الحوادث التي يعبر عنها مرتبة ترتيباً دقيقاً ذكياً, وتتضمن شيئاً من التصاعد, ينتهي بها إلى ذروتها التي قد تكون أمراً غير متوقع على الإطلاق وهذه هي النقطة التي تستطيع النكتة أن تضرب فيها ضربتها الفعالة. وتترك أثرها العميق في النفس.. وتبعث على الضحك.. الذي قد يأخذ أحياناً شكل موجات متلاحقة وقد يخلق حالة من البهجة والمرح, وقد يفضي بالضاحك إلى تدفق قد يستغرق دقائق قبل أن يتوقف.‏
ولا بد من الانتباه هنا إلى أن تقديم أو تأخير كلمة أو حركة في النكتة قد ينجحها وقد يفسدها وربما قتلها قتلاً.‏
وصيف (موليير) العابس‏
ويطيب لي هنا أن أتذكر ما كان يفعله الكاتب المسرحي الكوميدي الفرنسي الكبير موليير وكان يجنح إلى وسيلة بارعة للتأكد من بلوغه ما يطمع فيه من مستوى الكوميديا الراقية.‏
فقد لاحظ أن خادمه الخاص الموكل إليه كل ما يتصل بخدمة موليير وشؤونه العامة والخاصة, وهو من كان يطلق عليه اسم Butler أو الوصيف, لاحظ أن هذا الوصيف لا يعرف الابتسام إليه سبيلاً, وكان من العسير إضحاكه, أو بعث الابتسامة إلى شفتيه. فكان يستدعيه ويطلب منه الاستماع إلى مسرحيته الجديدة, ويطلب منه أن يجلس أمامه, ليستطيع موليير تتبع أسارير وجه خادمه, ثم يمسك بورقة وقلم, ويدون ماراق للوصيف على تأثير ما يكون قد كتب, على المشاهدين عن طريق متابعة الخط البياني الذي ارتسم على وجه وصيفه العبوس, ثم يمضي في إجراء تعديلات على مسرحيته, من واقع ما خرج به من ملاحظات كانت مقروءة أمامه كأنها رسم القلب, أو مقياس لضغط الدم, أو تقلبات الأسعار) .. (4).‏
مضمون النكتة والتعبير‏
ب- ينبغي أن يعبر المضمون عن حالة نفسية أو فيزيولوجية أو اجتماعية أو لغوية أو فكرية أو سياسية. فإذا لم تنطلق النكتة من هذه الحالات بهتت وضعفت وسقطت في السطحية والركاكة والتفاهة.. وباتت تدعو إلى الرثاء.. من راويها.‏
2- راوي النكتة :‏
لا نملك هنا سوى أن نتذكر المثل السائر والقائل: المغني.. لا الأغنية. فكم من أغنية جيدة, رائعة النظم, فريدة اللحن, أجهز عليها مغن ذو أداء رديء, وكم من أغنية رديئة, أخفى مغن مطرب ممتاز الكثير من عيوبها في النظم واللحن.إن صوت الراوي ذاته, بما يحمله وينطوي عليه من قدرة على التلوين والتعبير, وأسلوبه في الأداء, وتمكنه من إشراك أجزاء أخرى من جسده, كعضلات وجهه وحركات عينيه وأنفه ويديه. كل ذلك, إضافة إلى قدرته الفطرية على التعبير.‏
يلعب دوره في تمكن الراوي من إيصال النكتة, أو عجزه عن ذلك, وقد اختصر هذا أحمد عبد المجيد قائلاً: إن النكتة تتطلب من راويها حسن إلقاء وخفة ظل وبراعة عرض, مع اختيار مناسب, إلى جانب تمثيل للمواقف بالإشارة أو حركات الوجه.‏
3- المتلقي:‏
وقد لا يقل هذا الانسان الذي تروى أمامه النكتة, أو يلاحظها وهي تصنع, أهمية عن الراوي وعن المضمون. النكتة تتطلب من المتلقي لها لماحية وقدرة على التصور والتخيل فإذا ما افتقرت إلى هذا النوع من المتلقين والمستمعين احترقت, كما يقولون, ولا تجد على وجه مستمعها إلا مزيجاً من البلاهة وعدم الفهم, ولولا خوفه من أن يتهم بالغباء, لسأل جاره: ماذا يعني الأخ?‏
وليس خافياً أن نصيب النكتة الجيدة من النجاح هو أوفر, حين تلقى بين مجموعة من المستمعين الأذكياء , القادرين على الفهم والتذوق, وهذا ما انتبه إليه الجاحظ تماماً في كتابه (البخلاء) في حكاية (محفوظ النقاش) المشور جانباً.‏
الهوامش :‏
(1) الفكاهة البلغارية. تأليف داميان بارنياكوف- ترجمة حسين راجي - دار مجلة الثقافة-دمشق.‏
(2) و(3) رحلة مع الظرفاء- أحمد عبد المجيد - دار المعارف- القاهرة - سلسلة إقرأ -.1967‏
(4) المصدر السابق - ص .55‏
(5) المصدر السابق - ص.9‏

منقول

ومن هنا وتقديراً للموضوع أرجو أن يكون الرد بنكتة أو موقف طريف جرى مع صاحب الرد
لكم تحيتي