منتدى الآصالةوالتاريخ حريب بيحان
ينتهي : 30-04-2025
عدد مرات النقر : 1,288
عدد  مرات الظهور : 29,765,326

عدد مرات النقر : 4,135
عدد  مرات الظهور : 73,785,683
عدد  مرات الظهور : 69,501,652
قناة حريب بيحان " يوتيوب "
عدد مرات النقر : 2,317
عدد  مرات الظهور : 73,786,485مركز تحميل منتديات حريب بيحان
ينتهي : 19-12-2025
عدد مرات النقر : 3,955
عدد  مرات الظهور : 70,002,412
آخر 10 مشاركات
صـبـــاحكم سكــر // مســـاؤكم ورد معطر (الكاتـب : - المشاركات : 2389 - المشاهدات : 170572 - الوقت: 09:06 AM - التاريخ: 05-02-2024)           »          بيت شعر تهديه لمن يعز عليك (( (الكاتـب : - آخر مشاركة : - المشاركات : 1317 - المشاهدات : 111987 - الوقت: 01:56 AM - التاريخ: 05-02-2024)           »          ماذا ستكتب على جدران (منتديات حريب بيحان) (الكاتـب : - آخر مشاركة : - المشاركات : 3180 - المشاهدات : 234627 - الوقت: 05:17 AM - التاريخ: 05-01-2024)           »          تحدي المليوووون رد ،، (الكاتـب : - المشاركات : 2051 - المشاهدات : 124014 - الوقت: 05:15 AM - التاريخ: 05-01-2024)           »          تعزية للاخ يمني بوفاة اخيه (الكاتـب : - آخر مشاركة : - المشاركات : 6 - المشاهدات : 118 - الوقت: 09:46 PM - التاريخ: 04-22-2024)           »          قراءة في سورة البقرة (الكاتـب : - المشاركات : 2 - المشاهدات : 75 - الوقت: 05:34 AM - التاريخ: 04-20-2024)           »          الاذكار اليوميه في الصباح والمساء (الكاتـب : - آخر مشاركة : - المشاركات : 542 - المشاهدات : 33993 - الوقت: 08:30 PM - التاريخ: 04-19-2024)           »          عيدكم مبارك ،، (الكاتـب : - آخر مشاركة : - المشاركات : 1 - المشاهدات : 95 - الوقت: 08:45 AM - التاريخ: 04-10-2024)           »          ورد يومي صفحه من القرآن الكريم (الكاتـب : - المشاركات : 93 - المشاهدات : 1019 - الوقت: 06:53 AM - التاريخ: 03-23-2024)           »          شهرمبارك كل عام وأنتم بخير (الكاتـب : - آخر مشاركة : - المشاركات : 3 - المشاهدات : 86 - الوقت: 04:06 AM - التاريخ: 03-18-2024)


الإهداءات




روائع جبرانيّة...


روائع جبرانيّة...

السّلام عليكم ورحمة الله نقف في هذا الموضوع عند روائع جبرانيّة للملاك الثّائر " جبران خليل جبران " أرجو أن تنال استحسان ذائقتكم الأدبيّة مع

الرد على الموضوع
 
LinkBack خيارات الموضوع
قديم 09-11-2011, 09:18 PM   #1

" شاكر الشريف "



الصورة الشخصية لـ الكمكازي
الكمكازي غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 32
 تاريخ التسجيل :  Aug 2011
 أخر زيارة : 04-08-2021 (04:45 AM)
 المشاركات : 11,184 [ + ]
 تقييم العضوية :  26016
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
 مشاهدة أوسمتي
لوني المفضل : Darkred
شكراً: 3,080
تم شكره 2,389 مرة في 1,629 مشاركة
الإفتراضي روائع جبرانيّة...




السّلام عليكم ورحمة الله
نقف في هذا الموضوع
عند روائع جبرانيّة
للملاك الثّائر
" جبران خليل جبران "
أرجو أن تنال استحسان
ذائقتكم الأدبيّة
مع ودّي وتقديري .





(( العاصفة ))

( 1 )


كان يوسف الفخري في الثلاثين من عمره عندما ترك العالم وما فيه وجاء ليعيش وحيداً متزهداً صامتاً في تلك الصومعة المنفردة القائمة على كتف وادي قاديشا في شمال لبنان.

وقد اختلف سكّان القرى المجاورة في أمره، فمنهم من قال : هو ابن أسر شريفة مثرية وقد أحب امرأة فخانت عهده فهجر الديار وطلب الخلوة توصلاً إلى السلوان. ومنهم من قال: هو شاعر خيالي قد انصرف عن ضجة الاجتماع ليدون أفكاره وينظم عواطفه. ومنهم من قال : هو متصوف متعبد قد اقتنع بالدين دون الدنيا. ومنهم من اكتفى بقوله : هو مجنون.

أما أنا فلم أكن من رأي هذا ولا ذاك لعلمي أن في داخل الأرواح أسراراً غامضة لا تكشفها الظنون ولا يبوح بها التخمين، غير أني كنت أتمنى لقاء هذا الرجل الغريب وأشتهي محادثته. وقد حاولت مرتين التقرب إليه لأستطلع حقيقته وأستفسر مقاصده وأمانيه، فلم أظفر منه بسوى نظرات حادة وبعض ألفاظ تدل على الجفاء والبرودة والترفع. ففي المرة الأولى، وقد لقيته سائراً بقرب غابة الأرز، حييته بأحسن ما حضرني من الكلام فلم يرد التحية إلا بهز رأسه ثم تحول عني مسرعاً. وفي المرة الثانية وجدته واقفاً في وسط كرمة صغيرة بقرب صومعة فدنوت منه قائلاً : قد سمعت بالأمس أن هذه الصومعة بناها ناسك سرياني في القرن الرابع عشر، فهل لك علم بذلك يا سيدي؟

فأجاب بلهجة خشنة : لا أعلم من بنى هذه الصومعة ولا أريد أن أعلم . ثم أدار لي ظهره وزاد ساخراً : لماذا لا تسأل جدتك فهي أقدم عهداً وأكثر علماً بتاريخ هذه الأودية. فتركته مكسوفاً نادماً على تطفلي.
وهكذا مر عامان وحياة هذا الرجل المكتنفة بالأسرار تراود خيالي وتتمايل مع أفكاري وأحلامي.



( 2 )


ففي يوم من أيام الخريف وقد كنت متجولاً بين تلك التلول والمنحدرات المجاورة لصومعة يوسف الفخري فاجأتني العاصفة بأهويتها وأمطارها وأخذت تتلاعب بي مثلما يتلاعب البحر الهائج بمركب كسرت الأمواج دفته ومزقت الريح شراعه، فتحولت نحو الصومعة قائلاً في نفسي : هذه فرصة موافقة لزيارة هذا المتنسك وستكون العاصفة عذري وأثوابي المبللة شفيعي.

بلغت الصومعة وأنا في حالة يرثى لها، ولم أطرق الباب حتى ظهر أمامي الرجل الذي طالما تشوقت إلى لقائه حاملاً بيده طائراً مهشم الرأس منبوش الريش وهو يختلج كأنه على آخر رمق من الحياة. فقلت بعد أن حييته : اعذرني يا سيدي على مجيئي إليك في هذه الحالة، ولكن العاصفة شديدة وأنا بعيد عن المنزل.

فتفرس فيّ عابساً وأجاب بصوت يساوره الاستنكاف : الكهوف كثيرة في هذه النواحي وقد كان بإمكانك الالتجاء إليها.

قال هذا وهو يلامس رأس الطائر بانعطاف لم أرَ مثله في حياتي، فعجبت لمرأى الضدين : الرأفة والخشونة في وقت واحد، وتحيرت في أمري. وكأنه قد علم بما يخالج ضميري فنظر إلي نظرة استيضاح واستعلاه ثم قال : إن العاصفة لا تأكل اللحوم الحامضة فلمَ تخافها وتهرب منها؟

فأجبته : العاصفة لا تحب الحوامض ولا الموالح ولكنها تميل إلى الرطب البارد ولا أشك بأنها ستجدني لقمة لذيذة إذا قبضت علي ثانية.

فقال وقد انفرجت ملامحه قليلاً : لو مضغتك العاصفة لقمة لحصلت على شرف لا تستحقه.

فأجبته : نعم يا سيدي، ولقد جئت إليك هارباً من العاصفة لكي لا أنال ذلك الشرف الذي لا أستحقه !

فحول وجهه محاولاً إخفاء ابتسامة ضئيلة، ثم أشار نحو مقعد خشبي بقرب موقد تتأجج فيه النار وقال : أجلس وجفف أثوابك.

فجلست بقرب النار شاكراً وجلس هو قبالتي على مقعد محفور في الصخر وأخذ يغمس أطراف أصابعه بمزيج زيتي في طاسة فخارية ويدهن بها جناح الطائر ورأسه المجروح. ثم التفت نحوي قائلاً : قد دفعت الريح هذا الشحرور فهبط على الصخور بين حي وميت.

فقلت : والريح قد حملتني أيضاً إلى بابك يا سيدي وأنا للآن لا أدري ما إذا كانت قد كسرت جناحي أو هشمت رأسي.

فنظر إلى وجهي بشيء من الاهتمام وقال : حبذا لو كان للإنسان بعض طباع الطيور. حبذا لو كسرت العواصف أجنحة البشر وهشمت رؤوسهم. ولكن الإنسان مطبوع على الخوف والجبانة، فهو لا يرى العاصفة مستيقظة حتى يختبىء في شقوق الأرض ومغاورها.

فقلت وقصدي متابعة الحديث : نعم إن للطير شرفاً ليس للإنسان فالإنسان يعيش في ظلال شرائع وتقاليد ابتدعها لنفسه، أما الطيور فتحيا بحسب الناموس الكلي المطلق الذي يسير بالأرض حول الشمس.

فلمعت عيناه وانبسطت ملامحه كأنه وجد بي تلميذاً سريع الفهم. ثم قال : أحسنت، أحسنت، فإذا كنت تعتقد حقيقة بما تقول فاترك الناس وتقاليدهم الفاسدة وشرائعهم التافهة وعش كالطيور في مكان بعيد خالٍ إلا من ناموس الأرض والسماء.

فقلت : إني أعتقد بما أقول يا سيدي.

فرفع يده وقال بصوت يمازجه التعنت والتصلب : الاعتقاد شيء والعمل به شيء آخر. كثيرون هم الذين يتكلمون كالبحر أما حياتهم فشبيهة بالمستنقعات. كثيرون هم الذين يرفعون رؤوسهم فوق قمم الجبال أما نفوسهم فتبقى هاجعة في ظلمة الكهوف.

قال هذا ولم يدع لي الفرصة للكلام بل قام من مكانه ومدد الشحرور على جبة قديمة بقرب النافذة. ثم تناول رزمة من القضبان اليابسة وألقاها في الموقد قائلاً : اخلع حذاءك وجفف قدميك فالرطوبة أضر بالإنسان من كل شيء آخر. جفف أثوابك جيداً ولا تكن خجولاً.فاقتربت من النار والبخار يتصاعد من أثوابي الرطبة. أما هو فوقف في باب الصومعة محدقاً إلى الفضاء الغضوب.

وبعد هنيهة سألته قائلاً : هل جئت إلى هذه الصومعة منذ زمن بعيد؟

فأجاب دون أن يلتفت نحوي : جئت إلى هذه الصومعة عندما كانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه.

فسكت قائلاً في سري : ما أغرب هذا الرجل وما أصعب السبيل إلى حقيقته. ولكن لا بد من محادثته ومعرفة خفايا روحه، وسوف أصبر حتى يتحول شموخه إلى اللين والدعة.



( 3 )


غمر الليل تلك البطاح بردائه الأسود ونمت العاصفة وغزرت الأمطار حتى خيل لي أن الطوفان قد جاء ثانية ليبيد الحياة ويطهر الأرض من أدرانها. وكأن ثورة العناصر قد ولدت في نفس يوسف الفخري تلك الطمأنينة التي تجيء في بعض الأحايين مظهراً لرد الفعل فتحول نفوره مني إلى الاستنئناس بي، فقام وأشعل شمعتين ثم وضع أمامي جرة طافحة بالخمر وطبقاً عليه الخبز والجبن والزيتون والعسل وبعض الأثمار المجففة، ثم جلس قبالتي وقال بلطف : هذا كل ما عندي من الزاد فتفضل يا أخي وشاركني به.

تناولنا العشاء صامتين صاغيين إلى ولولة الريح وبكاء الأمطار. غير انني كنت أتبصر وجهه بين اللقمة والأخرى، مستفسراً ملامحه عن غوامضه، سائلاً معانيه عن الميول والمقاصد المستحكمة بوجدانه.

وبعد أن رفع المائدة تناول من جانب الموقد إبريقاً نحاسياً وصب منه قهوة صافية زكية الرائحة في فنجانين ثم فتح علبة مفعمة بلفائف التبغ، وقال بهدوء : تفضل يا أخي.

فأخذت لفافة رافعاً بيدي فنجان القهوة وأنا لا أصدق ما تراه عيناي، فنظر إلي وكأنه قد سمعني مفكراً فابتسم هازاً رأسه ثم قال بعد أن أشعل لفافة وشرب قليلاً من القهوة : أنت بالطبع تستغرب وجود الخمر والتبغ والقهوة في هذه الصومعة، وقد تستغرب وجود الطعام والفراش، وأنا لا ألومك فأنت واحد من الكثيرين الذين يتوهمون أن البعد عن البشر يستوجب البعد عن الحياة وما في الحياة من الملذات الطبيعية والمسرات البسيطة.

فأجبته : نعم يا سيدي، فقد تعودنا الاعتقاد بأن من يتنحى عن العالم ليعبد الله وراءه كل ما في العالم من الملذات والمسرات ليعيش وحده متنسكاً متقشفاً بالماء والأعشاب.

فقال : لقد كان بإمكاني عبادة الله وأنا بين خلقه، لأن العبادة لا تستلزم الوحدة والانفراد وأنا لم أترك العالم لأجد الله لأنني كنت أجده في بيت أبي وفي كل مكان آخر، ولكنني هجرت الناس لأن أخلاقي لا تنطبق على أخلاقهم، وأحلامي لا تتفق مع أحلامهم. تركت البشر لأنني وجدت نفسي دولاباً يدور يمنة بين دواليب تدور يساراً. تركت المدينة لأنني وجدتها شجرة مسنة فاسدة قوية هائلة عروقها في ظلمة الأرض وأغصانها تتعالى إلى ما وراء الغيوم، أما أزاهرها فمطامع وشرور وجرائم، وأما أثمارها فويل وشقاء وهموم. ولقد حاول بعض المصلحين تطعيمها وتغيير طبيعتها فلم يفلحوا، بل ماتوا قانطين مضطهدين مغلوبين على أمرهم.

واتكأ إذ ذاك إلى جانب الموقد، وكأنه قد وجد لذة في تأثير كلامه فيّ فرفع صوته أكثر من ذي قبل وزاد قائلاً :
لا،
لم أطلب الوحدة للصلاة والتنسك، لأن الصلاة، وهي أغنية القلب، تبلغ آذان الله وإن تصاعدت ممزوجة بصياح ألوف الألوف، وأما التنسك، وهو قهر الجسد وإماتة رغائبه، فمسألة لا مكان لها في ديني، لأن الله بنى الأجسام هياكل للأرواح وعلينا أن نحافظ على هذه الهياكل لتبقى قوية نظيفة لائقة بالألوهية التي تحل فيها. لا يا أخي لم أطلب الوحدة للصلاة والتقشف بل طلبتها هارباً من الناس وشرائعهم وتعاليمهم وتقاليدهم وأفكارهم وضجتهم وعويلهم.

طلبت الوحدة لكي لا أرى أوجه الرجال الذين يبيعون نفوسهم ليشتروا بأثمانها ما كان دون نفوسهم قدراً وشرفاً. طلبت الإنفراد لكي لا ألتقي النساء اللواتي يسرنَ ممدودات الأعناق غامزات العيون وعلى ثغورهن ألف ابتسامة وفي أعماق قلوبهن غرض واحد. طلبت الإنفراد لكي لا أجالس ذوي نصف المعرفة الذين يبصرون في المنام خيال العلم فيتخيلون أنهم أصبحوا من المدارك بمقام النقطة من الدائرة. ويرون في اليقظة أحد أشباح الحقيقة فيتوهمون أنهم قد امتلكوا جوهرها الكامل المطلق. طلبت الخلوة لأنني مللت مجاملة الخشن الذي يظن اللطف ضرباً من الضعف، والتساهل نوعاً من الجبانة، والترفع شكلاً من الكبرياء. طلبت الخلوة لأن نفسي تعبت من معاشرة المتمولين يظنون أن الشموس والأقمار والكواكب لا تطلع إلا من خزائنهم ولا تغيب إلا من جيوبهم، ومن الساسة الذين يتلاعبون بأماني الأمم وهم يذرون في عيونها الغبار الذهبي ويملأون آذانها برنين الألفاظ، ومن الكهان الذين يعظون الناس بما لا يتعظون به ويطلبون منهم ما لا يطلبونه من نفوسهم. . . طلبت الوحدة والانفراد لأنني لم أحصل على شيء من يد بشري إلا بعد أن دفعت ثمنه من قلبي. طلبت الوحدة والانفراد لأنني سئمت ذلك البناء العظيم الهائل المدعو حضارة، ذلك البناء الدقيق الصنع والهندسة القائم فوق رابية من الجماجم البشرية. طلبت الوحدة لأن في الوحدة حياة للروح والفكر والقلب والجسد. طلبت البرية الخالية لأن فيها نور الشمس ورائحة الأزهار وأنغام السواقي. طلبت الجبال لأن فيها يقظة الربيع وأشواق الصيف وأغاني الخريف وعزم الشتاء. جئت إلى هذه الصومعة المنفردة لأنني أريد معرفة أسرار الأرض والدنو من عرش الله.

وسكت متنفساً الصعداء كأنه ألقى حملاً ثقيلاً عن عاتقه وقد تلمعت عيناه بأشعة غريبة سحرية وظهرت على وجهه أمارات الأنفة والإرادة والقوة.

ومرت بضع دقائق وأنا أنظر إليه مسروراً بظهور ما كان محجوباً عني. ثم خاطبته قائلاً : أنت مصيب في كل ما قلته، ولكن ألا ترى يا سيدي أنك بتشخيصك أمراض المجتمع وأوصابه قد أنبت لي أنك أحد الأطباء الماهرين وأنه لا يجدر بالطبيب الإعراض عن العليل قبل أن يشفى او يموت؟ إن العالم بحاجو ماسة إلى أمثالك وليس من العدل أن تعتزل عن الناس وأنت قادر على نفعهم.

فحدق إلي هنيهة ثم قال بلهجة ملؤها القنوط والمرارة :
منذ البدء والأطباء يحاولون إنقاذ العليل من علته. فمنهم من جاء بالمباضع ومنهم من جاء بالأودية والمساحيق، ولكنهم ماتوا جميعاً دون رجاء ولا أمل، ويا ليت عليل الدهور يكتفي بملازمة مضجعه القذر ومؤانسة قروحه المزمنة، ولكنه يمد يده من بين اللحف ويقبض على عنق كل من يزوره ممرضاً ويخنقه. والأمر الذي يغيظني ويحول الدم في عروقي إلى نار محرقة هو أن العليل الخبيث يقتل الطبيب ثم يعود فيغمض عينيه قائلاً لنفسه : لقد كان بالحقيقة طبيباً عظيماً . . . لا يا أخي. ليس ين الناس من يستطيع أن ينفع الناس، فالحارث وإن كان حكيماً ماهراً لا يقدر على استنبات حقله في أيام الشتاء.

فأجبته قائلاً : قد يمر شتاء العالم يا سيدي ويجيء بعده ربيع بهي جميل فتظهر الأزهار في الحقول وتترنم الجداول في الأودية.

فقطب ما بين عينيه متنهداً، وبصوت تعانقه الكآبة قال : ليت شعري هل قسم الله حياة الإنسان، وهي كالدهر بكامله، إلى فصول تشابه فصول السنة بمسيرها وتتابعها؟ هل يظهر على سطح الأرض بعد ألف ألف عام طائفة من البشر تحيا بالروح والحق؟ هل يأتي زمن يتمجد فيه الإنسان فيجلس عن يمين الحياة فرحاً بنور النهار وطمأنينة الليل؟ هل يتم ذلك يا ترى؟ هل يتم ذلك بعد أن تشبع الأرض من لحوم البشر وترتوي من دمائهم؟

وانتصب إذ ذاك واقفاً رافعاً يمينه نحو العلاء كأنه يشير إلى عالم غير هذا العالم : تلك أحلام بعيدة، وليست هذه الصومعة منزلاً للاحلام، لأن ما علمه يقيناً يشغل كل فسحة وكل قرنة فيها، بل يشغل كل مكان في هذه الأودية وهذه الجبال. أما ما أعلمه يقيناً فهو هذا : أنا كائن موجود، وفي أعماق وجودي جوع وعطش، ولي الحق أن أتناول خبز الحياة وخمرها من الآنية التي أصنعها بيدي. من أجل ذلك تركت موائد الناس وولائمهم وجئت هذا المكان وسأبقى فيه حتى النهاية.

وأخذ يمشي ذهاباً وإياباً في وسط تلك الغرفة وأنا أتأمله وأفكر بكلامه وبالعوامل والبواعث التي صورت له الجامعة البشرية بخطوط عوجاء وألوان قاتمة، ثم أستوقفه قائلاً : إني أحترم أفكارك ومقاصدك يا سيدي، وأحترم وحدتك وانفرادك، غير أنني أعلم، والعلم مجلبة الأسف، أن هذه الأمة التعسة قد فقدت بتنحيك وابتعادك رجلاً موهوباً قادراً على خدمتها وإيقاظها.

فأجاب هازاً رأسه :
ليست هذه الأمة إلا كالأمم كافة. فالناس من جبلةٍ واحدة وهم لا يختلفون بعضهم عن بعض إلا في الظواهر والمظاهر الخارجية التي لا يعتد بها؛ فتعاسة الأمم الشرقية هي تعاسة الأرض بكاملها؛ وليس ما تحسبه رقيباً في الغرب سوى شبح آخر من أشباح الغرور الفارغ. فالرياء يظل رياء وإن قلم أظافره، والغش يبقى غشاً وإن لانت ملامسه، والكذب لا يصير صدقاً إذا لبس الحرير وسكن القصور، والخداع لا يتحول إلى أمانة إذا ركب القطار أو اعتلى المنطاد، والطمع لا ينقلب قناعة إذ قاس المسافات أو وزن العناصر، والجرائم لا تصبح فضائل وإن سارت بين المعامل والمعاهد. . . أما العبودية : العبودية للحياة، العبودية للماضي، العبودية للتعاليم والعوائد والأزياء، والعبودية الأموات فستبقى عبودية وإن طلت وجهها وغيرت ملابسها. العبودية تظل عبودية حتى إذا دعت نفسها حرية. لا يا أخي ليس الغربي أرقى من الشرقي ولا الشرقي أحط من الغربي، وما الفرق بينهما إلا كالفرق الكائن بين الذئب والضبع. ولقد نظرت فرأيت وراء مظاهر الاجتماع المتباينة ناموساً أولياً عادلاً يفرق التعاسة والعماوة والجهالة على السواء فلا يميز شعباً عن شعب ولا يظلم طائفة دون طائفة.

فقلت وقد بلغ بي الاستغراب حد الالتباس : إذاً فالمدينة باطلة وكل ما فيها باطل.

فأجاب متهيجاً : نعم باطلة هي المدنية وباطل كل شيء فيها. فما الاختراعات والاكتشافات سوى ألاعيب يتسلى بها العقل وهو في حالة الملل والضجر؛ وما تقصير المسافات وتمهيد الجبال والأودية والتغلب على البحار والفضاء غير أثمار غشاشة مملوءة بالدخان لا ترضي العين ولا تغذي القلب ولا ترفع النفس. أما تلك الألغاز والأحاجي التي يدعونها بالمعارف والفنون فهي قيود وسلاسل ذهبية يجرها الإنسان مبتهجاً بلمعانها ورنين حلقاتها؛ بل هي أقفاص ابتدأ الإنسان بتطريق أعمدتها وأسلاكها منذ القدم غير عالم بأنه لا ينتهي من صنعها إلا ويجد نفسه أسيراً مسجوناً في داخلها . . . نعم باطلة هي أعمال الإنسان وباطلة هي تلك المقاصد والمرامي والمنازع والأماني وباطل كل شيء على الأرض. وليس بين أباطيل الحياة سوى أمر واحد خليق بحب النفس وشوقها وهيامها- ليس هناك غير شيء واحد.

فقلت : وما ذلك يا سيدي؟

فوقف دقيقة ساكتاً ثم أغمض أجفانه واضعاً يديه على صدره وقد أشرق وجهه وانبسطت ملامحه، وبصوت عذب مرتعش قال : هي يقظة في النفس، هي يقظة في عمق أعماق النفس. هي فكرة تفاجىء وجدان الإنسان على حين غفلة وتفتح بصيرته فيرى الحياة مكتنفة بالأنغام، محاطة بالهالات، منتصبة كبرج من النور بين الأرض واللانهاية. هي شعلة من شعلات ضمير الوجود تتأجج فجأة في داخل الروح فتحرق ما يحيط بها من الهشيم وتصعد سابحة مرفرفة في الفضاء الواسع. هي عاطفة تهبط على قلب الفرد فيقف مستغرباً مستهجناً كل ما يخالفها، كارهاً كل شيء لا يجاريها، متمرداً على الذين لا يفهمون أسرارها- هي يد خفية قد أزالت الغشاء عن عيني وأنا في وسط الاجتماع بين أهلي وأصحابي ومواطني، فوقفت منذهلاً مدهوشاً قائلاً في نفسي : ما هذه الوجوه وما شأن هؤلاء الناظرين إلي وكيف عرفتهم، وأين لقيتهم، ولماذا أقيم بينهم؛ بل لماذا أجالسهم وأحادثهم؟ هل أنا غريب بينهم، أم هم غرباء في ديار بنتها الحياة لي وأسلمتني مفاتيحها؟

وسكت فجأة كأن الذكرى قد رسمت على حافظته صوراً وأشباحاً لا يريد إظهارها، ثم بسط ذراعيه وقال همساً : هذا ما حل بي منذ أربع سنوات فتركت العالم وجئت هذه البرية الخالية لأعيش في اليقظة متمتعاً بالفكر والعاطفة والسكينة.

ومشى إذ ذاك نحو باب الصومعة ناظراً إلى أعماق الليل ثم هتف كأنه يخاطب العاصفة : هي يقظة في أعماق النفس فمن يعرفها لا يستطيع إظهارها بالكلام ومن لم يعرفها لا ولن يدرك أسرارها.

ومرت ساعة طويلة ممنطقة بهمس الفكر ونداء العاصفة ويوسف الفخري يمشي تارة وسط تلك الحجرة ويقف طوراً في بابها محدقاً إلى الفضاء العابس، أما أنا فبقيت صامتاً شاعراً بتموجات روحه مستظهراً أقواله، مفكراً بحياته وما وراء حياته من لذة الوحدة وآلامها. وعند انقضاء الهزيع الثاني من الليل اقترب مني ونظر طويلاً إلى وجهي كأنه يريد أن يحفظ في ذاكرته رسم الرجل الذي باح له بسر وحدته وانفراده. ثم قال ببطء : أنا ذاهب الآن للتجول في العاصفة، وهي عادة أتمتع بلذتها في الخريف وفي الشتاء . . . هاك إبريق القهوة واللفائف، وإن طلبت نفسك الخمر تجدها في الجرة. وإذا شئت النوم تجد اللحف والمساند في تلك القرنة.

قال هذا والتف بجبة سوداء كثيفة ثم زاد مبتسماً : أرجوك أن توصد باب الصومعة عندما تذهب في الصباح لأنني سأصرف الغد في غابة الأرز.

ثم سار نحو الباب وتناول من جانبه عكازاً طويلاً وقال : إذا فاجأتك العاصفة ثانية وأنت في هذه النواحي فلا تتأخر عن الالتجاء إلى هذه الصومعة. ولكنني أرجو أن تعلم نفسك حب العواصف لا الخوف منها . . . مساء الخير يا أخي.

وخرج إلى الليل مسرعاً.

ولما وقفت في باب الصومعة لأرى وجهته كان الظلام قد أخفاه ولكنني بقيت بضع دقائق أسمع وقع قدميه على حصباء الوادي.

جاء الصباح وقد مرت العاصفة وانقشعت الغيوم وظهرت تلك الصخور والغابات متشحة بنور الشمس، فتركت الصومعة بعد أن أقفلت بابها وفي نفسي شيء من تلك اليقظة المعنوية التي تكلم عنها يوسف الفخري.

ولكنني لم أبلغ منازل الناس وأرى حركاتهم وأسمع أصواتهم حتى وقفت قائلاً في سري : نعم، إن اليقظة الروحية هي أخلق شيء بالإنسان بل هي الغرض من الوجود، ولكن أليست المدنية بما فيها من التلبس والأشكال من دواعي اليقظة الروحية؟ وكيف يا ترى نستطيع إنكار أمر موجود ونفس وجوده دليل على إثبات صلاحيته؟ قد تكون المدنية الحاضرة عرضاً زائلاً ولكن الناموس الأبدي جعل سلماً تنتهي درجاته بالجوهر المطلق.

ولم أجتمع ثانية بيوسف الفخري لأن الحياة أبعدتني عن شمال لبنان في أواخر ذلك الخريف فجئت منفياً إلى بلاد قصية عواصفها داجنة. أما التنسك فيها فضرب من الجنون.





عن كتاب
" العواصف للأديب " جبران...


v,hzu [fvhkd~m>>>



 
  مـواضـيـعـي


الرد باقتباس
الرد على الموضوع

Bookmarks


Currently Active Users Viewing This Thread: 1 (0 members and 1 guests)
 

قوانين المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML مغلق
Trackbacks are متاح
Pingbacks are متاح
Refbacks are متاح



شات تعب قلبي تعب قلبي شات الرياض شات بنات الرياض شات الغلا الغلا شات الود شات خليجي شات الشله الشله شات حفر الباطن حفر الباطن شات الامارات سعودي انحراف شات دردشة دردشة الرياض شات الخليج سعودي انحراف180 مسوق شات صوتي شات عرب توك دردشة عرب توك عرب توك


جميع الأوقات GMT +3. الساعة الآن 05:21 AM.


.
new notificatio by 9adq_ala7sas
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education
.

Search Engine Friendly URLs by vBSEO